ورد ذكر كلمة دين في 101 موضع في القرآن الكريم، وكلمة دين في اللغة العربية لها ثلاثة معاني: السيطرة، والخضوع، والعرف أو العادة. تعبر كلمة دين عن التوجهات الفكرية والنظام السلوكي الذي يتبعه الشخص في إدراكه لسمو كينونة ما، وفى خضوعه وإذعانه لتلك الكينونة. ونسبة الدين لله وحده تعنى أنه لا يجوز إشراك غيره في العبادة، وأنه ينبغي على المرء التوجه بالعبادة لله وحده، وإتباع شريعته وإطاعة أوامره.
ومن ثم، فإن الإسلام كدين يقدم للبشرية البناء الإدراكي الذي من خلاله يشكل الإنسان نظرته للكون من حوله. وهذا يشمل إدراكه ورؤيته وينبني على ذلك فهمه لوجود الله سبحانه وتعالى خالق الكون كله، وأيضا فهمه ورؤيته لعلاقته بالله سبحانه وتعالى وعلاقته بالمجتمع. وبناء عليه، فإن المسلم ينمى اتجاهه وإحساسه بالمسؤولية إزاء تحقيق مبادئ وتعاليم هذا الدين. إلا أن الطابع القدسي للإسلام يعد أمراً أساسياً، وذلك أنه دين سماوي منزل من عند الله سبحانه وتعالى. تقوم تعاليم الإسلام على القرآن والسنة؛ الأول هو كلام الله سبحانه وتعالى الذي أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. أما السنة فهي تعاليم وكلمات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو ببساطة هي أسلوبه في الحياة. يعمل هذان المصدران سويا على تزويد المسلمين بمصدر متجدد للتوجيه والإرشاد وفهم الإسلام ووصاياه الدينية والاجتماعية. وبالاعتماد على هذين المصدرين، ينبغي على المسلمين أن يطوروا أنظمتهم الاجتماعية وقوانينهم وكذلك حكوماتهم.
وعلى الصعيد الاعتقادي أو الإيماني، يضع الإسلام نظاما إيمانيا يرتكز على مفهوم الوحدانية لله تعالى وعدم إشراكه بالعبادة. إن الرابط الأساسي بين المرء ودينه هي الشهادة، والتي من خلالها يؤكد المسلم يقينه بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكذلك إيمانه بالملائكة والكتب السماوية والرسل واليوم الآخر. وبالتالي فإن التلفظ بالشهادة يحرر المسلم من جميع أنواع الخضوع والإذعان، ليتوجه بها جميعا لله سبحانه وتعالى. وبالتالي فإنها تلغى جميع القيود والعوائق التي تحد من قدرة المرء على الابتكار والتفكير. ويتجلى التطبيق العملي لذلك من خلال أداء الواجبات والفرائض الدينية كوسيلة يحافظ بها المرء على نمط ثابت ومتسق، يتوافق فيه سلوك المرء المسلم مع معتقداته.
وفى الوقت ذاته، يهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بالإنسانية، وذلك مذكور بشكل صريح في القرآن الكريم. فالقرآن يتحدث عن الإنسان باعتباره أرقى المخلوقات وأكثرها تكريماً، يظهر ذلك التكريم جلياً في سجود الملائكة له عند خلقه. ولذا، فإن الإنسان قد أؤتمن على مهمة بناء نظام اجتماعي على الأرض يقوم على الفضائل والأخلاق. ومن أجل تحقيق هذا الهدف فإن الإسلام قد أمد الإنسان بمجموعة من المبادئ الإرشادية العامة، مع التركيز بشكل خاص على الخلق، والعلم، والعدالة باعتبارها أركان جوهرية لعملية إنشاء هذا النظام الاجتماعي. هذه المبادئ الإرشادية يمكن توضيحها بشكل موجز كما يلي:
1- يولى الإسلام احتراما خاصا لخلق الإنسان، وبذلك فإنه يؤكد ضمنيا على أن الإنسان لم يخلق عبثا. يقول الله تعالى :أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(المؤمنون:115.). بل إن الإنسان قد ُخلق ليكون خليفة الله على الأرض، وبذلك التفويض فإن مهمة الإنسان هي عبادة الله وحده. يقول الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (سورةَ الذاريات: 56).
إلا أن الإسلام بمثل هذا التوجيه الشامل يهدف إلى التأكيد على الارتباط بين التزام الإنسان بالفضائل والقيم من جهة، ومن جهة أخرى قدرته على تأسيس حضارة إنسانية عادلة وفاضلة على الأرض بإتباعه المبادئ الإسلامية.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، فإن الإنسان عند خلقه يتحلى ببعض الصفات الأخلاقية الأساسية مثل كونه عادلا، أو كونه يميل بشكل غريزي إلى الأعمال الحسنة. هذه الصفات موجودة بشكل فطرى، ولدى جميع البشر بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم. وبالتماشي مع هذا الاتجاه، فإن القرآن ُيولى اهتماماً خاصاً لحرية الإنسان في اختيار دينه ومعتقده، للتأكيد على أهمية مبدأ حرية الاختيار كأساس للمحاسبة والمسئولية.
في هذا الصدد، ينُص القرآن الكريم على أنه:لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ البقرة: 256
كما يؤكد القرآن باستمرار أيضا على أهمية ترك الحرية للشخص في اختيار دينه. ففي القرآن الكريم يخبر الله تعالى نبيه وبالتالي عامة المسلمين:إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ القصص: 56 وفى موقف آخر يعلق القرآن الكريم على إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس إلى الإسلام فيقول:أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ يونس: 99 وينص القرآن أيضا على أن: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ المدثر: 38.
بل إن القرآن الكريم يذهب إلى مستوى أبعد في التأكيد على حرية المرء في الاختيار، فلا يعترف بقرارات المرء أو تصرفاته التي يأتي بها مكرها؛ إذا كان قلبه مطمئن بالإيمان.
وبناء عليه، فإن الإنسان المثالي - طبقا للمنظور الإسلامي - هو الذي يجمع بين الفضائل الأخلاقية والإذعان والخضوع التامين لله سبحانه وتعالى. ولمساعدته في اختيار الطريق الصحيح، فإن الإنسان قد ُمنح الإدراك والإرادة حتى يتسنى له فهم الغرض الذي ُخلق من أجله، ويفعل ذلك عن طريق المعرفة الموجودة لديه بشكل طبيعي. وكما يبين القرآن، فإن الفارق بين الخير والشر متأصل في صورة إلهام، وهى صورة الإرشاد التي يفترض من خلالها أن ينمى البشر قدرتهم على مراجعة تصرفاتهم والحكم عليها، وإتباع ما يؤدى بهم إلى سبيل الرشاد.
2 - العلم أي المعرفة أو الوعي بأن الإسلام هو الدين الحق من عند الله سبحانه وتعالى، تلك المعرفة لها أهمية بالغة بالنسبة للإنسان ليتمكن من الارتقاء إلى ما هو مطلوب منه باعتباره خليفة الله في الأرض. كما أن المعرفة تستخدم كمعيار رئيسي لتصنيف الناس والتفريق بينهم. وتعتبر المعرفة أيضا عنصراً أساسياً بالنسبة للناس حتى يدركوا وجود الله سبحانه وتعالى ومن ثم يخشونه. ومواكبة لهذا التأكيد الخاص على أهمية المعرفة، فإن القرآن يحث الإنسان دوماً على فهم الكون المحيط به، وقوانينه وأنظمته.
كما يؤكد القرآن على أن اكتساب المعرفة في المجالات المختلفة هو أمر حتمي، وذلك لأن المعرفة تشحذ إدراك الإنسان وتصقله، وتمكنه من التعامل على نحو مسؤول مع جميع القضايا أو الظواهر أو المشاكل التي قد تطرح نفسها.
ولذلك، فإن المنهجية المحددة للقرآن تمد الإنسان بطائفة من الأساليب التي تتضمن الملاحظة، والحجة القوية، والمجادلة بالتي هي أحسن. كما يشير القرآن أيضا إلى أهمية الاستدلال وعقد المقارنات والتحليل المتزن القائم على جميع البيانات المتوفرة، والمستند إلى رجاحة العقل وقدرات التحليل المنطقي لهؤلاء الذين يتمتعون بإمكانات عقلية فائقة أو قدرات علمية. ولذا، فإن المنهج القرآني يؤكد من جانب على أهمية وعى الأفراد وإدراكهم لما يحيط بهم، وإمعان التفكير في أبعاد وجودهم، وعلاقتهم بالكون من حولهم.
ومن جانب آخر، يعكس تثمين الإسلام واحترامه للعقل ودوره في مساعدة البشرية على التأمل والفهم وإماطة اللثام عن الأسرار الكونية، ومن ثم يصبح الإنسان أكثر قدرة على تحقيق الانتفاع الأمثل منها. وفى هذا الصدد، حينما يرد ذكر العقل فإن القرآن يمجده، ويجذب الاهتمام إلى ضرورة استخدامه. بل إن القرآن دائما ما يذكر العقل بطريقة إيجابية على كلا المستويين المعنوي واللفظي . يكاد يكون ذكر العقل متكرراً في كل موضع يصدر فيه أمر أو نهى، فدائما ما يتكرر النداء للمؤمنين في هذه المواضع بضرورة توظيف العقل، ويلامون على عدم فعلهم ذلك.
3- العدالة إن العدالة هي القيمة الأخلاقية الأسمى في المجتمع الإسلامي، وبشكل عام يتم تحقيق العدالة من خلال تنفيذ شريعة الله عز وجل. إن بغض الله سبحانه وتعالى وكراهيته للظلم قد تم التأكيد عليها في القرآن بشكل واضح، فالقرآن الكريم يساوى بطريقة لا لبس فيها بين الظلم، والمغالاة أو التطرف كسبب مباشر لانهيار وتدهور المجتمعات الإنسانية. يتجلى الارتباط بين الأمرين عندما يدرك المرء أن الظلم والتطرف هم على الترتيب مترادفين مع المفاهيم المعاصرة للفساد السياسي والاقتصادي.
ومن أجل التأكيد على أهمية وأولوية العدالة، فإن القرآن الكريم يضعها بمنزلة أفضل الأعمال في تأسيس أي مجتمع إنساني، وفى هذا السياق تذكر العدالة في القرآن الكريم بمعان ومفاهيم متعددة. فالعدالة كمفهوم سماوي تشير إلى الفضائل الأخلاقية مثل المساواة وعدم التحيز والاعتدال والاستقامة، والعدالة بمفهومها هذا ينبغي استيعابها كهدف كوني متأصل في كل نفس بشرية. أيضا فإن معنى العدالة كمساواة يسرى بين جميع المخلوقات، وأحيانا يشار إليها بمسمى الناموس الكوني.
وخلاص القول، أن الإسلام كدين يضع طائفة من القيم والمبادئ الأخلاقية القابلة للتطبيق على المستوى العالمي. وحيثما وجدت تلك المبادئ والقيم، وجد الإسلام. إلا أن الإسلام يتحدى وبطريقة حاسمة فكرة انحصاره في مجموعة من البشر أو تقيده بمكان معين. حيث أن الإسلام في جوهره هو منظومة وحركة موجهة ضد الفساد والمادية والطغيان، في أي مكان وزمان وجدت فيه مثل تلك النقائص أو غيرها من نواحي الاختلال البشرى.
المصدر: برنامج التبادل المعرفي